ارْكَب مَّعَنَا

بقلم: ياسمين يوسف

10 يوليو، 2020

هذه الرسالة هي بلاغٌ للناس وهي أيضًا رسالة إلى كل من قرّر أن يبتعد عن ربه.. كل من رأى قيودًا في إيمانه بخالقٍ… كل من يتشكك داخليًا ويعاني في صمت، وكل من أعلنها صراحةً وخلع رداء الإيمان بالكلية… كل من هو في أولى خطوات الابتعاد… وكل من أوغل ونأى بنفسه حتى لا يكاد يُرى في الأفق المغمم. هي بلاغ ورسالة حب ورحمة ولطائف. وأود أن أشكر في البداية المعلّم الفاضل والمربي المخلص الأستاذ عبد العزيز رسول، فلقد استوحيت فكرة هذه الرسالة من جمل قصيرة قالها في حفل تخرج طلاب المرحلة الثانوية بمدرسة الإسنا بمدينة ميسيساجا بكندا.

أنت والحياة
إذا كانت الحياة كالبحر المتلاطم الأمواج، فأنت عليك أن تتعلم السباحة باحتراف، وإلا ستغرق. ربما استشعرت في نفسك الثقة والقوة أنك تستطيع أن تجتاز هذا البحر وحدك وأنك تستطيع أن تتعلّم قوانينه وتحكمها. وربما زيّن آخرون لك ذلك ترغيبًا في تلك الاستقلالية أو ربما نفرت أنت من الداعين إلى الإيمان بسبب غلظةٍ أظهروها نحوك، فنأيت بنفسك عن كل ناصح وشمرّت عازمًا على أن تمضي وحدك.

هذان الخياران (إما السباحة بمهارة وإما الغرق)، لا ينبغي أن يكونا بالضرورة خياريك الوحيدين. هناك خيارُ ثالث، وهو أن تجد سفينة.. أقوى سفينة، وأكثر السفن ثباتًا واستقرارًا فوق الأمواج! ولا يوجد هناك مجال لإضاعة الوقت والعمر في التخبط بدون سفينة! وسفينتك هي إيمانك بالخالق وهي مثبتٌ بها جهازٌ لتحديد الوجهة، لا تتعرض معه إلى القلق من ضياعك في الطريق. فقط آمن به وسلّم له وسيقودك بإذن الله إلى وجهتك. لا تقاومه. ولا تلقِ بمرساة أهوائك في منتصف اللاشيء في البحر الهائج فتتعطل سفينتك وتفوتك وجهتك وقد تحطمك الأمواج في غضون ذلك.

الوجهة والشطآن
في هذه الحياة، أنت تسعى لوجهةٍ ما. وبدون إيمانٍ ما، لا يمكنك تحديد وجهة بعينها. إن العلوم الإنسانية تخبرنا بأن الإنسان لا يستطيع أن يتخذ قرارًا بدون أن تكون له منظومة قناعات وإيمان. فعلى أي أساس يختار دراسة عن دراسة أخرى؟ وعلى أي أساس يختار مجال التطوع أو مجال العمل؟ وعلى أي أساس يحكم بين طرفين أو يتبنى قضية عن قضية أخرى؟ لابد وأنه يمتلك عدد من الأفكار والقناعات التي يؤمن بها وتوجهه في كل موقف يتصرف حسب إيمانه بتلك الأفكار.

وبدون مرجعية ثابتة وقوية لديه، يصبح كل شيء نسبيًا ولا يستطيع أن يتحقق من عما إذا كان قراره أو حكمه صائبًا أو لا. وبدون الاعتراف بوجود خالق، لا يمكن وجود مرجعية ثابتة، كما أنه بدون الاعتراف بدولة، لا يمكن الاعتراف بقوانينها الحاكمة. وعندما يؤمن الإنسان بالله ﷻ، يجد في الإيمان كل شيء: منظومة القيم، ومعايير الخير والشر، والحق والباطل، وقوانين الصواب والخطأ، وكل شيئ. كما يجد آليات الثواب والعقاب ويعرف تمامًا أن بعد الموت شيء وأن هذا الشيء هو وجهته الحقيقية… أن الجنة هي وجهته الحقيقية!

وعندها يدرك أين تتجه سفينته وما الذي عليه فعله بالتحديد كي يصل بها إلى تلك الوجهة. ويعرف أيضًا أنه مهما توقف عند شطآن الأهل، والأصدقاء، والأزواج، والأبناء، والدراسة، والعمل، فإنه لابد متحركٌ نحو وجهته الأصلية. وهنا يصبح لحياته معنى ويمكنه تحديد أهداف ويمكنه الشعور بالرضا والسعادة عندما يسير وفق المنظومة الإيمانية، ويمكنه تصحيح مساره وإعادة توجيه دفة سفينته عندما ينحرف عن مسار وجهته. وسيستخدم أيضًا الخارطة الإيمانية للطريق، لكي يحقق هذه العودة للمسار والصراط المستقيم الواصل بينه وبين وجهته. فبدون إيمان، لا وجهة، ولا معنى، ولا قواعد ثابتة، ولا معايير للصواب والخطأ. وبدون إيمان، تتقاذفك الشطآن بلا هواد، ولا تجد الراحة الحقيقية.

التحديات
إن لعبة الحياة، تحتاج الكثير من العزيمة، والإرادة، والوعي، والوضوح، والثبات. هذه الحياة ليست للانهزاميين، والانسحابيين، والضعفاء. كأي لعبة، هي مليئة بالتحديات والمستويات المتدرجة في السهولة، والصعوبة. وهي مليئة بالمرتفعات والمنحدرات وتكافئك وتعاقبك ككل الألعاب. وهي تختبر قدراتك ومقاومتك وقدراتك. 

والأمواج في هذا البحر عاتية. وعندما تواجهك تلك الأمواج، لا تلعن السفينة ولا تقفز منها. بل تمسّك بها وقم بتقويتها وإصلاح أي عطلٍ طرأ عليها. لا تسمح لأي من ركابها بخرقها أو الاخلال من كفائتها. ولا تجعل هؤلاء يجعلوك تزهد في السفينة. هي ليست سفينتهم. هم ليسوا أوصياء عليها. فهم قد ينتابهم الهلع ويتطاولون عليك لاعتقادهم أنك تريد أن تخرق السفينة. أعذرهم. ولكن لا تسمح لهم بإرغامك على ترك السفينة. ولا تترك أنت موقعك طواعية ولا تواجه الأمواج وحدك. 

فصاحب الفُلك يريد لك الهداية، ويريد لك النجاة، ويريدك أن تبقى على ظهر السفينة. ونحن نريدك أن تركب معنا، وأن تصبح أحد أعمدتنا، مساهمًا، معطاءًا، مبتكرًا، متطوعًا، نافعًا. فدع المُشتتات جانبًا، وتخلص من أية أوهام تسرق منك عمرك، ومستقبلك، وتعطلك، وتحرمنا منك، ومن عطائك. الرحلة شاقة، والتحديات كبيرة، ونحتاج كل السواعد. فلا مجال للانفلات أيٍ منا نحو الضياع والتيه.

تزيين التيه وانفراط العقد
وكارثة هذا التيه أنه هاويةٌ لا قرار لها ولا قاع. ولا يمكن أن تنحدر فيه إلى مستوى معين بدون أن تجد نفسك تنحدر إلى مستويات أدنى، ربما لا تريدها أنت ولكنها حتمية لأنها التطور الطبيعي لمعطيات هذا التيه! وعندما تجد نفسك تجاري حياةً لم ترسم أنت ملامحها ولا تتسق مع قناعاتك الداخلية، تفقد أجزاءً من نفسك واحدة تلو الأخرى، حتى تنتهي إلى عدمٍ قاتل يجعلك تحيا بلا معنى، أو تسعى للتخلص من هذه الحياة!

والأمر يشبه العقد الذي تتراص فيه حبات القيم، والمعاني وتربطه عروة وثقى لا انفصام لها تحفظ الحبات في مكانها، تلك العروة الوثقى هي الإيمان بالله ﷻ. وإذا انحلت هذه العروة، انفرطت حبات عقد حياتك واحدة تلو الأخرى. فمن يريد أن يقنعك بشرب الخمور أو الانفلات الجنسي، أو بالشذوذ الجنسي مثلاً، يجب أن يقنعك أولاً بأنه ليس هناك خالق، وبالتالي ليس هناك قوانين، ولا حلال ولا حرام. وبالتالي يجب أن يقنعك أن كل شيء نسبي وأننا نحن من نُضفي المعنى على الأشياء، ويُصبح كل شيء نسبي ليس له قانون أو قاعدة. وبالتأكيد يجب أن يقنعك بأنه ليس هناك شيء بعد الموت. وهو بذلك يقتلك بالبطيء ويقضي على كل شيء يمكن أن تتمسك به في الحياة. فبسرقة فكرة الحياة بعد الموت منك، يسلبك الخلود الذي وعدك الله ﷻ به والذي يجعلك تصمد أمام كل شيء حتى الموت نفسه. كما يسلب منك الأمل في الكثير من الأشياء التي تجعلك تستطيع الاستمرار في هذه الحياة. راجع منشور اسم الله الباعث.

وبضياع كل تلك المعاني، تتواصل الحبات في الانفراط. فإذا كان ليس هناك خالق، وليس هناك قوانين حلال وحرام، ولا يوجد ثواب أو عقاب، فيمكنك حقًا أن تفعل أي شيء طالما هو بالتراضي وبدون إيذاء أحد. والشذوذ الجنسي ليس هو آخر حبة تنفرط في العقد، بل هو من أوائل تلك الحبات. فبمنطق اللاشيء، الإنسان هو امتداد للحيوان ويحيا ليُشبع غرائزه وليفعل ما يحلو له بدون قيود. فليس هناك مانع من أن يقتل الأجنة. وليس هناك مانع من أن يغيّر نوعه. فما المانع بعد ذلك أن يتزوج الأخ من أخته؟ الحيوان يفعل ذلك. وما المانع أن تتزوج المرأة بأكثر من رجل ويعيش الجميع سويًا؟ وما المانع أن يحيا الإنسان ككلبٍ بشري يسير على أربع إذا شعر أنه كلب وإذا أراد ذلك؟ هو لا يؤذي أحد.

كل تلك ليست أساطير خيالية أو افتراضات وهمية، في كلها تحدث الآن بالفعل وبأعداد كبيرة وبشكل قانوني في بعض الدول. وما المانع؟ لا تستطيع حتى أن تقول أنه ضد الفطرة. فلم تكن هذه حجة مقنعة لك لرفض الشذوذ. والقوانين ظالمة سعيت أنت لهدمها وللتظاهر ضدها وانتقادها. فما المانع؟ وهل أنت مستعد حقًا لتقبّل كل هذا؟

والكارثة أنه يتم تزيين كل شيء لك بكلماتٍ براقة. فالشذوذ هو “مثلية”. والإجهاض هو “اختيار” Pro-choice. وقتل النفس للمريض هو “قتل رحيم”. وتغيير خلق الله ﷻ هو “تحوّل” أو “عبور”. حتى قتل النفس والانتحار، أصبح “حق الإنسان في إنهاء الحياة”. بالفعل هذا هو تزيين الباطل والتيه والهاوية. يقول الله ﷻ:

– “قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ” ﴿الحجر:٣٩﴾
– “تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” ﴿ النحل:٦٣﴾
– “فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” ﴿الأنعام:٤٣﴾
– “فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ” ﴿٣٧ التوبة﴾

هم يزينون لك كل شيء وتنفرط حبات العقد واحدة تلو الأخرى حتى تنفرط آخرها وتأخذ معها حياتك نفسها. هم يدفعون بك إلى الانتحار ولا يبالي أي منهم بما يحدث لك. وبعد أن ينتحر أحدهم، يقولون أنه يرقد في سلام! أي سلام؟ ومن أين جاءوا بتلك المعلومة؟ هل عاد أحدهم من الموت ليخبرهم بأنه هناك سلامٌ بعد الموت؟ وهل هناك عدمٌ أو سلام؟ ولماذا آمنوا بذلك وهم لا يؤمنون بالله ﷻ لأنهم يقولون أنهم لا يستطيعون اثبات ذلك؟ إنه فقط تزيين للهاوية ومعايير مزدوجة يستخدمون ما يخدم منطقهم منها كما يحلو لهم.

احتمالان لا تستطيع اثبات أيهما
فلنفترض أنك حقًا لا تستطيع اثبات وجود الخالق ولا الإيمان، فماذا تفعل؟ يقول المفكر “هارولد كوشنر”، عندما تواجهك الحياة بإحتمالين أو افتراضين لا تستطيع اثبات أيٍ منهما، قم باختيار الاحتمالية التي تقدّم لك المزيد من الحياة والحيوية. مثلاً إذا كان هناك افتراضان: أن هناك إله أو لا يوجد إله. مع كل احتمالين لا تستطيع اثبات أيٍ منهما، قم باختيار الاحتمال الذي يجعلك تحب أن تنهض في الصباح من فراشك، الاحتمال الذي يعطيك الأمل، الاحتمال الذي يعطيك الرغبة في الحياة… ثم أقدِم عليه!. راجع مدونة “عندما تموت الأحلام“. ما الذي تعدك به قصة الإلحاد؟ ستظل قصة الإيمان أجمل وتظل هي القادرة على أن تجعلك تغلق عينيك وتبتسم بحق. والسفينة دومًا موجودة بإنتظارك. فأركب معنا قبل فوات الأوان.

سفينة نوح
لم تكن سفينة سيدنا نوح، عليه السلام، حادثة محصورة بزمنٍ محدد وموقعٍ جغرافيٍ ما. تلك السفينة باقية في صورة ذهنية وقلبية ترمز إلى الإيمان الذى هو قارب النجاة في هذا البحر المتلاطم والتي يهلك كل من ليس عليها. تلك الفُلك تجري بنا بين الأمواج المتلاطمة وتشق العباب في كل زمانٍ ومكان. وسبيل النجاة هو التمسك بها، وصيانتها، وتقويتها، والإحكام على دفّتها. فنعم السفينة هي ونعم القبطان من يعرف وجهته جيدًا ويقبض على تلك الدفّة!

ركاب السفينة
ليكن نداؤكم “اركب معنا“! لا تلقوا بأحدٍ من السفينة! لا تدفعوه لأن يُلقي بنفسه! تُدمي قلبي الكلمات القاسية التي أسمعها من علماء أفاضل عندما يسمعون عن ارتداد أحدهم. “مع السلامة، الإسلام لا يحتاجك”!! الإيمان ليس بحاجة له ولا لأيٍ منا. ولكنه هو يحتاج الإيمان، ونحن نحتاجه معنا أخًا ونحتاجها أختًا نشدد عضد بعضنا البعض في تلك الرحلة الحافلة بين الأمواج الهائلة! نحن وإن مضى كلُ منا في طريقه، لن تكتمل حياته بدونٍ دورٍ مجتمعي نتواصى فيه بالحق والصبر. فما هو الدور المجتمعي لركاب السفينة؟

هل هو دور التوبيخ، واللوم، والتقريع، والإقصاء؟ هل هو دور إقامة الحُجة والقبض عليهم متلبسين بأي جرم؟ هل هو دور الشماتة والاشمئزاز؟ أرجو ألا يكون كذلك. فلنسأل الله ﷻ الثبات ولنمد أيادينا لمن يوشك على السقوط من السفينة أو إلى من سقط منها بالفعل منادين عليه بأن يركب معنا. وعندما نلتقط يده، نُمسكها ولا نُفلتها.

ارْكَب مَّعَنَا
من تهزمه الحياة بتحدياتها، يأخذ انهزامه صورًا كثيرة. منهم من يكتئب ويدخل في دوامة الأمراض النفسية. منهم من يغضب ويتحول إلى كتلة من الغليان تتحرك وتدمر كل شيء حولها. ومنهم يستسلم لعبثية كل شيء ويكفر بكل شيء في هذه الحياة وقد ينتهي به الأمر إلى إنهاء حياته. الحياة صعبة كما هي وتحدياتها تحتاج للكثير من الإرادة والعزيمة والثبات. وتحتاج إلى اليقين لتلتزم بكل ما سبق.

فلماذا تجرد نفسك من أسلحتك وتقفز من السفينة حتى وإن كانت مهترئة؟ لماذا لا تركب معنا وتساعدنا على إدارة دفتها نحو الوجهة؟ لماذا لا تدع المحبين منا يشدون من أزرك ويساعدوك في أثناء هذه الرحلة لنأخذ بأيدي بعضنا البعض إلى الجنة؟ أنا وباسم مشروع سلام، أحب أن أعمل معك. راسلني وأعدك أن تحظى رسالتك بخصوصية وبدون إصدار أحكام عليك مهما كانت قسوة تفاصيل هاويتك ولا مدى عمقها. مثل الكثيرين، يدي مبسوطة وممتدة لك. وإن في القلب لك لرحمات وإن على اللسان لك لأطيب الدعوات وحقًا أرجو أن تركب معنا.